التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رواية دائرة فرح - تأليف زهرة علي - الجزء الثاني

رواية دائرة فرح - تأليف زهرة علي - الجزء الثاني


دائرة فرح


الجزء الثاني
رواية

زهرة علي





رابط الجزء الأول من رواية دائرة فرح

نستذكر ما حدث في الجزء الأول من الرواية:


سارة طفلة صغيرة بعمر السبعة شهور، ما زالت لا تستطيع المشي، فكيف تحركت؟

أمسكتُ بيد ابنتي "نور" بقوة خشية أن تضيع مني هي الأخرى، وقمتُ أمشي بسرعة، وقلبي يدق دقات كبيرة وثقيلة كدق الطبول أو أكث، تجاوزت الصفوف، وغصتُ بين الزحام أبحث عن ابنتي بجنون.. سارة.. طفلتي المدللة.. كيف أختفت؟ وأين هيّ؟

أمرني حمد بأن أتماسك، وقمنا بالبحث حولنا لعل أحد معارفنا أخذها دون إستئذان، فلم نجدها!

إستوعبنا بعدها بأنها جريمة إختطاف..




البحث عن سارة


تماسك حمد أكثر، وبدى أكثر جدية، وكأنه ترك العاطفة خلفه، ليقوم بالتحرك بسرعة، أنه يفكر بعقله وليس بعاطفته، وكأنه وضع خطة مرسومة في عقله، أعرفه جيداً في وقت الجد يخطط سريعاً ثم ينفذ بسرعة أكبر، وهذا ما أكتسبه من مهنته.

توجه حمد مسرعاً إلى البوابة الرئيسية حيث تواجد رجال الأمن، وأخبرهم بإختفاء ابنتنا، وطلبوا منا مواصفاتها، وماذا كانت تلبس من ملابس مع ذكر ألوان ما تلبس.. أخبرتهم سريعاً بتفاصيل دقيقة عما كانت ترتدي، وبعد أن أخذوا الإسم والعمر وجميع المواصفات، طلبوا صورة حديثة للطفلة، أعطيتهم الصورة الخاصة بطفلتي وقاموا بتصوير نسخاً منها.

تعاون رجال الأمن معنا بمرونة، وقاموا بالإبلاغ عن حالة الاختطاف عبر جهاز خاص بهم، وعدم السماح للزوار بالمغادرة دون تفتيشهم وعرض الصورة المنسوخة وتوزيعها على رجال الأمن ليباشروا عملهم.

ثم قاموا بتشغيل كاميرات المراقبة في جميع البوابات في غرفة خاصة بالمراقبة، وطلبت مني إحدى موظفات الأمن أن أتحلى بالصبر والشجاعة والهدوء حتى لا تتأثر ابنتي "نور" التي كانت تبكي منزعجة طيلة الوقت، وأمرتني بمتابعة المراقبة معهم عبر شاشات خاصة يظهر فيها الناس الخارجة من بوابات الحديقة، لعلي أجدْ  ابنتي.

قام حمد بإبلاغ أقرب مركز للشرطة، لمساعدته في البحث والتحري عن ملابسات الجريمة، فرجال الأمن يختلفون في مهامهم عن رجال الشرطة.... رجال الأمن يتبعون شركات خاصة في الأمن، بينما رجال الشرطة يتبعون وزارة الداخلية وتحركاتهم تكون أدق وعلى نطاق أوسع.

ثم اتصل حمد بأحد زملائه المقربون في العمل ولم يتخاذل في تقديم المساعدة، وإخبار باقي الزملاء الذين قدموا المساعدة بشتى الطرق.

الملازم حمد معروف بأخلاقه النبيلة وتواضعه مع الجميع في عمله... وهكذا أجاب عندما سأله المحقق عن حقيقة وجود أعداء أو أشخاص يشك بهم... فليس لنا أعداء.

تجاوب مركز الشرطة معنا، وكثفوا جهودهم، فقد قامت دوريات الشرطة بالبحث و التحري عن المشتبهين المجهولين في الشوارع القريبة من الحديقة، وفريقاً آخر قام بالبحث بين الألعاب والأشجار داخل الحديقة وفي دورات المياه الخاصة بالحديقة، وفريقاً آخر يبحث عند البوابات الستة للحديقة.

قمتُ بمخابرة والدّيَ هاتفياً، وأعلمتهم بما حصل، حضر جميعهم إلى الحديقة مذهولي العقل، فالأيام الأخيرة كانت سارة مبتهجة معهم.

انضمت العائلة للبحث معنا، فأختي رهف تبحث بين النساء والأطفال، وتريهم صوراً من الهاتف لسارة، لعلهم لمحوها أو تعرفوا عليها، وأخي سعد يشاهد بين الرجال والشباب لعله يلتفت لشيئاً غريباً، ووالدي كان واقفاً بالقرب من أحد البوابات رغم كبر سنه، إلا أنه أبى إلا أن يكون له دوراً في البحث عن حفيدته، أما والدتي فكانت تواسيني وتصبرني على ما أصابني من الحزن والذعر...

أستمرت الفِرق في البحث لمدة ثلاث ساعات متواصلة، ثم إن أحد الفِرق عثروا على فستان ابنتي سارة الأصفر في دورة المياه الخاصة بالنساء.

جُنّ جنوني عندما عرفتُ بالخبر، وخفت أن يكون قد أصابها مكروه، وأخذت الأفكار والوساوس تراودني بجنون ، ووالدتي بقربي تهدئني وتدعو أن يردها الله سالمة، وتقرُ عيوننا برؤيتها.

وصل خبر الإختطاف لعائلة حمد، وضج الجميع بالدعاء لها، وجاء إخوة حمد إلى الحديقة لمواساة حمد ومساعدته في البحث.

بينما أم حمد قالت معاتبة: هي السبب، عديمة المسؤولية، فابني كان متعباً من عمله، وهي التي أصرت عليه بالذهاب للتنزه، لقد أضاعت ابنتنا باستهتارها، فهي تحب التصوير واستعراض ما لديها من نعمة أمام الكاميرات لتغيظنا... وواصلت عتابها أمام مرأى من أفراد العائلة، المهم أن تصب غضبها وتضع كل اللوم عليّ وتنتقص من شأني أمام العائلة...


في غيابي، وفي أحلك لحظات حياتي... قطعوني بأنيابهم الحادة، أكلوا من لحمي، وشربوا من دمي، وامتلئت بطونهم بلحمي ودمي، و سالت من بين أنيابهم دمائي...... هكذا اغتابوني، في الوقت الذي كنت أحتاج فيه لكلمة تشرح صدري للقاء ابنتي...


لم أرى أي فائدة من جلوسي أمام كاميرات المراقبة مع الفريق الخاص، فقررت أن أكون أمام أحد البوابات لأبحث عنها بنفسي، ورافقتني والدتي، بينما أختي رهف آثرت على الأهتمام بنور التي كانت مصدومة وتبكي طيلة الوقت لضياع أختها.

كنتُ أكشف صورة ابنتي للمغادرين، لعلهم شاهدوا تصرفاً غريباً، أو لمحوها مع أحد، كنتُ مثيرة للشفقة، فحالتي كانت صعبة يرثى لها..

شاهدتُ طفلةً في نفس عمر سارة، كانت ترتدي فستاناً أحمر وحذاءاً باللون الأبيض، كانت محمولة على ذراع والدتها، وهيئتها من الخلف كهيئة ابنتي... توجهت مسرعة إليها، ولكن خاب ظني عندما اقتربت منها.. ليست هيّ.. فتقطع قلبي حزناً..


ابنتي سارة... أنتي قمري.. أنتي السراج الذي يضيء منزلنا وحياتنا بالضحكات وبحركاتك الطفولية والعفوية، أين أنتي يا سارة؟

أنتِ نبع الفرح والسعادة التي في قلوبنا.. بدونك سنكون تائهين.. سيتدمر مستقبلنا وحياتنا وسعادتنا بغيابك.. و سيسيطر الحزن علينا..

ساعدني يا الله في الحصول على ابنتي.. ومُدني بالقوة الكافية للبحث عن ابنتي.. القريبة مني... اشعر بأنكِ قريبة مني.. لابد أنها قريبة جداً..

سأجدك.. لن أغادر هذا المكان إلا بوجودك.. أنتِ يا عزيزتي التائهة التي نبحث عنها.. بينما أرواحنا و قلوبنا هي التائهة..  ولا أدري متى تعود.. ربما تعود بعودتك يا نبض قلبي.. ونصحو من غفلتنا..


أمرنا الملازم جاسم بمغادرة المكان، فقد مرت خمس ساعات ولم نجدها، وكأن الأرض قد أبتلعتها، لكن الجميع رفضوا المغادرة قبل إيجاد الطفلة، وجددنا عزيمتنا في البحث عن ضالتنا، حتى لو حلّ الصباح علينا.

تأخر الوقت كثيراً، وأخذ معظم زوار الحديقة بمغادرة الحديقة مع عوائلهم وأطفالهم من مختلف الجاليات العربية والأجنبية.


اشتدت حينها المراقبة واشتدّ الزحام أكثر وأكثر.. كنا نتصفح وجوه الزائرين، وبالخصوص من لهم أطفالاً وفتيات مقاربين لعمر سارة.

كان الشرطي المراقب يوقف كل زائر مع عائلته ويفتشهم ويسألهم عن سارة بالإشارة لصورتها التي يحملها معه، وإذا كان من معهم أولاداً يمرون بسرعة لأن المخطوفة من جنس البنات.


كنتُ أقف متوسطة والديّ، وكان حمد يقف في الجهة المقابلة أمامي، وجه لي حينها نظرات الأسى والعتاب لما حصل مع ابنتنا، شعرت بالذنب الكبير وبتقصيري.

شعر والدي بمشاعري وقال: قدّر الله وما شاء فعل، لا تجلدي نفسك فهذا الأمر مكتوب، وأنتِ لا تعلمين الغيب..


تأثرتُ بكلام والدي، شعرتُ بضعفي وقلة حيلتي، فدمعت عيوني وضمتني والدتي في أحضانها كطفلة صغيرة تحتاج للحب .. تحتاج للحنان.. تحتاج للأمان.

وبينما كان الشرطي يفتش المغادرين، مرّ أحد الجاليات الآسيوية، بان عليهم من أزيائهم أنهم ينتمون لأصول هندية، فالرجل كان ضخماً ويرتدي زياً هندياً بسيطاً، وكذلك ابنه الصغير الذي كان يحمله نائماً على ذراعه، يرتدي زياً هندياً وبه علامة حمراء على جبينه، وزوجته ترتدي الساري الذي يعود لتقاليدهم.

الشرطي و هو يشير لصورة سارة: هل رأيتم هذه الطفلة؟
أجابوا بلغتهم..
الرجل: لا
المرأة: لا

سمح لهم الشرطي بالمرور، ليفتش العائلة التي تليهم.

لكـــــــــــن!
صاحت أمي بأعلى صوتها: ســــــــــــارة.. سارة سارة.. أوقفوا العائلة .. إنها سارة.. أوقفوهم...

لاذت العائلة الهندية بالهرب، ولكن رجال الأمن بما فيهم حمد وإخوته لاحقوهم وحاصروهم، واستطاعوا القبض عليهم، فالشرطة كانت منتشرة في كل مكان، وبتدبيرهم كانوا محاصرين الحديقة من الداخل والخارج.


انتشل الشرطي سارة من يد المجرم بسرعة خاطفة، بينما قام حمد بتوجيه لكمة قوية إلى المجرم، سقط على إثرها بعض من أسنانه، ونزف دماً من أنفه.

كانت ضربات قلب أمي متسارعة، كانت تتنفس وتتحدث بسرعة وكأنها قادمة من سباق، وكانت دموعها تسبقها، فبالكاد كنا نفهم كلامها.

قالت أمي: أنها سارة.. ابنتي سارة.. عرفتها من الحناء الذي وضعته في يدها ليلة العيد.. لقد رأيت يدها متدلاة من على كتف الرجل الغريب فعرفتها وميزتها رغم تغيير ملامحها واستبدال ملابسها بملابس الفتيان.

قامت الشرطة بتبليغ جميع الفرق بنجاحنا في العثور على الطفلة، وتم القبض على المجرمين وإحالتهم للتحقيق...

بينما والدي كان سعيداً لعودة سارة، و شكر الله على عودة حفيدته..

سلمني الشرطي ابنتي سارة.. احتضنتها.. وكدت أعصرها بأضلاعي.. من كثرة الشوق والخوف من الضياع.. ودموعي تنهمر على خدي بلا توقف.. فهذه الليلة المرعبة أشبه بكابوس لا ينتهي بل وأكثر من ذلك، فكانت مشاعري مختلطة، فلا أدري أأفرح لعثورنا عليها، أم أحزن لحالها.. فهي لا تتحرك!

بينما كانت سارة فاقدة للوعي، نقلناها مباشرة في سيارة الإسعاف والتي كانت متوقفة لحالات الطوارئ إلى أقرب مستشفى لفحصها والاطمئنان عليها.

رافقني حمد في سيارة الإسعاف، أما أختي رهف فكانت تلحق سيارة الإسعاف لترافقنا فيما بعد، بينما أصطحب سعد والديّ وابنتي نور معهم في السيارة والاعتناء بها.

ثم تفرق الجميع إلى منازلهم.. عائلتي وإخوة حمد وأصدقائه، ورجال الأمن والشرطة الذين باشروا عملهم.



في سيارة الإسعاف

في سيارة الإسعاف وضعت الممرضة جهازاً للتنفس على صغيرتي سارة، ثم وضعها حمد في حجره وكأنه يحتضنها.


كنت أجلس بالقرب منه دون أي كلمة، فقد كنتُ أعتصرُ ألماً، ولمتُ نفسي كثيراً لما جرى.. كان يتأملها، فقد تغيرت ملامحها، فقد قام المجرمون بحلاقة شعر رأسها وحاجبيها، إنهم مجردون من الرحمة، وحتى الأقراط التي كانت في أذنيها لم تكن عليها..


استبدلوا ملابسها بملابس صبي من الهند، وهذا ما يفسر حصول رجال الأمن على فستانها مرمياً في دورات المياه، وكذلك يفسر عدم تعرفي عليها عند مرور المجرمين بالقرب مني.. وحاولتُ بصمت إيجاد تفسيراً لما حصل، وأخذت الأفكار تلعب في عقلي...

أحمدُ الله تعالى بأن والدتي كانت معي، وأحمد الله بأنها وضعت الحناء في كفوف طفلتي، لما كنا تعرفنا عليها..


نزلت دمعة مرة شديدة الحرارة كادت تحرق خد حمد.. دمعة حزن وألم على حال ابنته.. سرعان ما أخفاها خلسة بكف يده، وتظاهرتُ بعدم مشاهدتي لدموعه التي قطعت نياط قلبي.


هذه المرة الأولى في حياتي التي أجد فيها دموع حمد منذ تزوجته، الرجال أقوياء.. هكذا كنا نظن منذ الصغر.. يقولون بأن الأولاد الرجال يجب ألا يبكوا ولا يذرفوا الدموع.. ولكنهم في حقيقة الأمر يقاسون أكثر منا نحن النساء بسبب إخفاء الدموع.. الدموع تشعرهم بالضعف والذل .. أدركت بأن حمد مهما أخفى مشاعره عني فهو صاحب مشاعر وأحاسيس جياشة.. هو طيب وحنون ويحب الجميع، ولا يوجد مكاناً للكره في قلبه، ولكن طبيعة عمله كملازم تتوجب عليه القوة والصرامة.. زاد حبي واحترامي لحمد رغم أنني لم أبوح بذلك، ولكن عيوني أظهرت كل التقدير.


انطلقت سيارة الإسعاف بسرعة دون توقف.. تجاوزت الطرقات وإشارات المرور، وأطلقت تمويضاً بالأضواء وتحذيراً صوتياً عبر صفارات الإنذار لتسهل حركتها من خلال المرور، وما هي إلا لحظات حتى وصلنا للمستشفى، ودخلنا من الباب الخلفي للطوارئ.. نقلوها مباشرةً إلى غرفة العناية المركزة، ولم يسمحوا لنا بالدخول.





في المستشفى


التحقت أختي رهف بنا، ولم تتركني لحظة واحدة، كانت تواسيني طيلة الوقت، وترد على المكالمات التي تأتيني من الأهل والمعارف للإطمئنان على حالة سارة.

بعد عشر ساعات متواصلة أعلمنا الطبيب بنتيجة الفحوصات، جميع فحوصاتها  بعد الجريمة جاءت سليمة، إلا أنها ستكون تحت إشراف العناية المركزة بسبب جرعة زائدة من المخدر الذي حقنها المجرمون به مما عرضها للدخول في غيبوبة، وقد تصحو بعد أسبوع أو شهر وقد تطول المدة لأكثر من ذلك.

قال الطبيب: الأمل قليل في مثل هذه الحالات.. عليكم بالدعاء لها.
أحسست حينها بأني أوشكتُ على فقدها..

وفي اليوم الثاني سمح الطبيب بدخول أحد الوالدين لرؤيتها فقط، ولا يسمح للآخرين بالدخول مهما كانت درجة قرابتهم.

دخلت ُ أولا.. تأملتها بصعوبة.. طفلة صغيرة و بريئة.. يغطي وجهها جهاز الأكسجين، مليئة بأجهزة العناية، جهازاً للتنفس، وآخر للقلب، وبيدها الصغيرة إبرة المغذي..

 خاطبتها.. طفلتي تحلي بالشجاعة فكلنا نحبك ونرغب في عودتك وضمك بين أحضاننا.. كوني قوية .. وعودي لنا.. ثم إنني لم أحتمل المنظر فخرجت ودموع عيني تسبقني.

كان حمد أشجع مني، فعند دخوله عندها.. قبلها في جبينها.. وقال لها: عودي..

قال الطبيب: يتوجب عليكم العودة للمنزل، لا فائدة من جلوسكم، ويستطيع والديها زيارتها يومياً، وسنعلمكم بالمستجدات هاتفياً إن تطور الأمر.
فرح: لن أغادر المكان إلا وابنتي معي، أحملها بين ذراعي.

بانت أم حمد بهيئتها من بعيد، كانت مستعدة لإغراقي بالكلام اللادغ السام لتقوله لي بكل قوة وغضب، ولكنها رأت حالتي، يرثى لها.. ما زلت بملابس العيد، وجهي شاحب، عيناي حمراوتان وباهتتان من كثرة الدموع.. والحزن الذي ألتهمني من فقدان ابنتي..

أشفقت أم حمد على حالي، لذلك احتضنتني بقوة.. بدون أن تنطق كلمة واحدة.. وأخذت تذرف الدموع.. فكل عبارات المواساة اختصرتها بدموعها وحضنها الحاني.. وكانت المرة الأولى التي تحتضنني فيها وأحس فيه بحنانها.

اقتنعتُ بعدها بالعودة إلى المنزل للراحة، فالأمر يحتاج إلى القوة والصبر، وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها للمنزل مكسورة بدون صغيراتي، فعزيزتي نور بقيت في بيت والدي، أما نور عيوني سارة باتت في المستشفى بين الحياة والموت..

أخذتُ حماماً دافئاً، وجعلتُ المياه تنساب بسهولة، وكأنها تغسل عمق الحزن والألم الذي حلّ بي.

جلستُ في زاوية من غرفتي أقلب الصور في هاتفي، معظمها لصغيراتي ولحظاتي معهم، صورة لسارة وضعتها في سلة وغطيتها بقش كالطيور وزينتُ جبينها بتاج مصنوع من الورود.. كنتُ اتقن التصوير بأفكاري الغريبة، وأبدع في اختيار الإكسسوارات التي أشتريها بعناية لذلك.


كان حمد جالساً بجانبي و يتأمل معي الصور و الذكريات..
قال حمد بأسى: للأسف لقد شوهوا جمال ابنتنا الصغيرة بلا رحمة..
فرح: إنهم فعلاً بلا قلب ولا رحمة .. يجب أن ينالوا عقابهم..


ثم سمعنا صوت طرق الباب.. فتح حمد الباب.. استأذنت أم حمد في الدخول، وكان بيدها طعاماً حضرته لنا..

أم حمد: يجب أن تأكلوا يا ابنتي، فأنتم تحتاجون للكثير من القوة والصبر والإيمان لتجاوز هذه المحنة.

أقتنعنا بكلامها فمنذ تلك الليلة المنكوبة ونحن نشرب الماء فقط..

أكلنا شيئاً بسيطاً، ثم ذهبنا للنوم.. نام حمد بسهولة، بينما كثرة الحزن والتفكير قد سبب لي إرهاقاً، فلم أستطع النوم ليلتها رغم الإرهاق والتعب الذي في جسدي.

توجهتُ لغرفة صغيراتي، كانت مظلمة، فأشعلتُ النور.. هنا سرير نور، والآخر لسارة.. أعتصر قلبي حزناً، ثم إني توضأت لقيام الليل، لبستُ إحرام الصلاة، وفرشتُ سجادتي، وجهزتُ قرآني.

صليتُ من جلوس لقلة حيلتي.. بقلبٍ حزين.. أعترفت بذنوبي وتقصيري مع الله.. شكوتُ لهُ حالي وحال ابنتي.. طلبتُ منه أن يشفي ابنتي سارة وينجيها ويحفظ لي عائلتي، وأن يوجهني للخير وللرزق الحلال.. ثم تلوتُ بعض الآيات من القرآن الكريم.. تلوتُ سورة الفتح.. قرأتها وقلبي يعتصر ألماً، ودموعي جارية، شعرتُ بالراحة والإطمئنان فغفت عيني على السجادة.


حُلم


رأيت نفسي مع حمد ونور وسارة في سرير واحد، كنا مستلقين بلا حول ولا قوة، جاء الرجل الفقير الذي ساعدناه سابقاً قبل الدخول للحديقة، كان ينظر إلينا دون أن يتكلم، وفجأة تناثرت الورود ذات اللون الأبيض والزهري علينا وغطت أجسادنا من كثرتها، ومن كثافتها غطت أجسادنا وبعدها وجوهنا، كنا لا نقوى على الحركة، حتى بتنا لا نتنفس الهواء، فقد غطت ملامحنا وأنوفنا، ثم شهقنا شهقة واحدة محاولين أن نعيد مجرى التنفس.. وفجأةً صرختُ بأعلى صوتي... لا

لم أعي إلا وحمد كان يحاول أن يوقظني، فقد حلّ الصباح ولم أشعر بنفسي فقد بتُ على سجادتي.

حمد: هيا تسطحي قليلاً في غرفتك فأنتِ متعبة، لا تفعلي ذلك بنفسك، فأنتِ لستِ مقصرة.. بل أنا المقصر الذي تركتكم للحظات كان يتوجب أن أرافقكم ولا أترككم  ولا لحظة، ولكن هذا قدرنا وعلينا أن نقبل ونرضى بالقضاء والقدر.
فرح: لا بأس، المهم أن لا تغضب مني.
حمد: لستُ غاضباً.. أنا قلقاً عليكم.

مسحتُ دموعي، ثم أسترسلتُ لأخبره عن حلمي الغريب الذي رأيته عندما أوقظني...
فرح: أتذكر الرجل المسن الذي ساعدناه بالصدقة قبل دخولنا للحديقة؟
حمد: نعم، أذكره جيداً، وأذكر أنكِ أعطيته كل النقود التي في محفظتك.

أخبرتهُ بالحلم الغريب، وبرؤيتي للرجل الغريب في حلمي....

حمد: لا أعلم تفسير رؤياك، ولكن نحن عملنا الخير مع ذاك الرجل، وربما كان أشدّ الناس حاجة، فقد كان يطلب المال بإستحياء.. وما ترسله من خير يعود إليك.

فرح: أتظنُ بأن سارة ستشفى؟

حمد: أعتقدُ ذلك، علينا أن نتفائل، ونكثر من الدعاء لها.

فرح:  ربما الحلم رسالة لنا بأن نكثر من العطاء والإحسان حتى تُشفى أبنتنا وتتحسن حياتنا.


التحقيق مع المجرمة امريتا


مددّ حمد إجازته لشهر ليكون بالقرب منا في هذه الفترة.

وفي أحد الأيام ذهب إلى مركز الشرطة ليتابع آخر مستجدات القضية، وما حصل مع المجرمين، وكان التحقيق مستمراً طيلة الفترة السابقة، لأنهم أكتشفوا الكثير من الجرائم على أيديهم، وبأنَّ لديهم معاونون يجب الإعتراف عليهم.

أستعان قسم التحقيق بمترجم ليترجم للمجرمين لغتهم الهندية، فالهند بلد كبير يحوي أكثر من إثنى وعشرون لغة رسمية، منها البوودية والبنغالية والبنجابية ... وغيرها.

ولكن حسب الولاية التي ينتمي لها هؤلاء المجرمون، ولاية جهار خاند، فإنهم يتكلمون اللغة الأردية.

وتمَّ التحقيق مع المرأة الهندية التي كانت ترافق الرجل المختطف، وتسجيل جميع إعترافاتها بتفاصيل الجريمة...

المترجم بلسان المحقق: ما اسمكِ، وكم عمركِ، وما هي وظيفتك؟

امريتا: اسمي امريتا، وعمري ثلاثة و أربعون سنة، وأعملُ ممرضة في أحد المستشفيات الخاصة، والتحقتُ مؤخراً للعمل مع المجموعة الجديدة.

المحقق: وما هو عملك مع المجموعة الجديدة؟

امريتا: أعمل معهم بنفس الوظيفة، ممرضة، وأساعدهم في حقن الأطفال المستهدفين بجرعة مخدرة، وبعدها أقوم بتغيير ملابسهم بمساعدة الرجل الذي معي والذي بدوره يكمل المهمة.

المحقق: وما هو هدفك من اختطاف الأطفال؟ أهيّ الفدية؟

امريتا: لا

المحقق: أتبيعينهم؟

امريتا: لا.. سكتت وترددت في البوح بالسر.

صرخ المحقق: ما هو هدفكم؟ هيا تحدثي..

سكتت امريتا مرة أخرى..
بينما استفزها المحقق بسؤاله: هل أنتِ مريضة نفسياً؟ أو أنكِ امرأة لا تنجب الأطفال بسبب كبر سنك؟

قالت امريتا وهي تبكي: لديّ طفلان ، طفلٌ بعمر العاشرة والآخر بعمرالخامسة عشر، وهذا العمل هو مصدر رزقي لكي أستطيع توفير مصاريف مدارسهم ومعيشتهم..

المحقق: يبدو أنكِ تريدين تغيير مسار التحقيق، ولكن أنتِ لستِ أماً، أنتِ بلا ضمير ولا إحساس، بل أنتِ عارٌ على الأمهات.... لماذا تسرقون الأطفال، ما هو السبب؟

امريتا: نخضعهم لعمليات جراحية لسرقة الأعضاء.

المحقق بغضب: أليس لديكم ذرة ضمير؟ ألم تفكروا بأن هؤلاء الأطفال ضعفاء لا يحتملون مثل هذا النوع من العمليات، وقد يتعرضوا للأذى أو الموت.
استرسلت امريتا في الاعتراف بالحقيقة، وكأنها استسلمت للأمر الواقع..

امريتا:نحنُ أناسٌ نزع من قلوبنا الرحمة، فكل ما يهمنا هو المال، وأن نعيش، ولا يهمنا شيء، فإن مات الطفل نرميه في سلة المهملات بعيداً عن مكاننا وحتى لا يشك فينا أحد.

المحقق: وهل هناك أطفال يعيشون بعد ما تفعلوه من جريمة شنعاء؟

امريتا: نعم.. حصل أن عاشت حالتين فقط، ولكن بعد أن أخذنا بعض الأعضاء منهم، قمنا برميهم في الأسواق الشعبية بحذر في مكان بعيد عن وكرنا، ونحرص دائماً على مسح بصماتنا، فنحن حريصون كل الحرص على أن لا يكشف أمرنا..

حتى المحقق لم يتمالك نفسه، فالحديث معها مقززاً، فهؤلاء الوحوش لا يهمهم البشر ولا براءة الأطفال، منزوعون من الرحمة والعاطفة، وكل ما يهمهم هو تجارة الأعضاء، وهو المشروع الناجح الذي يدر الأموال عليهم، فالمادة والمال هو هدفهم الرئيسي.

طالت ساعات التحقيق مع امريتا، وأعترفت على من يعمل معهم في مثل هذه الجريمة، فهم يخصصون مخزناً كبيراً معداً بكل أدوات الجريمة.

يحوي المخزن على غرف مكيفة لإجراء العمليات، وغرفاً أخرى تحوي ثلاجات خاصة لجمع الأعضاء المسروقة، وفريقاً كبيراً من المجرمين، و يضم أمهر الأطباء من مختلف الجنسيات يقوموا بعمليات انتشال الأعضاء، ومهندسون ومراقبون  كاميرات خاصة بالمخزن يديرها مختصون، ويوصلون تفاصيل كل عملية سرقة إلى المسؤول الذي يمولهم بالكثير من المال.

 والذي قام بتصميم المخزن مهندساً أغدقوا عليه المال الوفير لأمانته وإعجابهم بتصميمه المناسب للعمل، بالإضافة لسيارات خاصة للقيام بالمهمات، والمسوقون للعمليات هم الأكثر ربحاً للمال فينا.

لديهم ملابس مختلفة لأعمار مختلفة من الأطفال، يحملون بعضاً منها في الحقيبة، ويستغلون أوقات الازدحام، مثل ما حصل يوم العيد، ازدحام وضجيج وهذا مناسب لعملهم.. يخطفون الأطفال بسهولة ، ويقوموا بتبديل ملابسهم بأزياء هندية، وهذا أول شيء يفكروا به حتى يستطيعوا الفرار دون شكوك حتى لو اقتربوا من الكاميرا، وكأن الطفل ينتمي لهم ومن عائلتهم.

يقوموا بنزع الحلي منهم ويتقاسمونها فيما بينهم سراً، ويكملوا الموضوع بعمل علامة حمراء على جبين الضحية توحي بأنه من عائلتهم.

تقوم امريتا بحقن الطفل بحقنة مخدرة، تجعله ينام بسهولة حتى يكملوا مهمتهم بسهولة دون أي صراخ أو ضجيج من الطفل فيحملونه وكأنه طفل نائم مع عائلته، ومن مهامهم حلاقة شعر وحواجب الضحية حتى لا يتعرف عليه أي أحد، وبذلك تتغير الملامح، ولا يمكن لأحد أن يشعر بريبة، وهذا ما جعل من فرح لا تتعرف على ابنتها سارة.

استمر التحقيق مع امريتا أياماً بساعات طويلة، فتفاصيل القضية وتطوراتها تطول كثيرا، ودائرة المشتركين معهم كبيرة يجب الكشف عنهم.



ستتعرف في الجزء الثالث و الأخير:


التحقيق مع المجرم لاهار الذي ساعد المجرمة امريتا في مهمة الأختطاف
تغير فرح
و الكثير.....


كونوا بالقرب و دمتم بخير 

تعليقات

  1. القصة جميلة ومؤثرة

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بك بيننا .. شكرا على الإطراء وعلى المتابعة

      حذف

إرسال تعليق

تعليقاتك الإيجابية تسعدنا

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أوراد قرآنية لتحقيق الأهداف

  أوراد قرآنية لتحقيق الأهداف أحببت أن أجمع هذه الأوراد المجربة، وهي مجموعة أوراد مقتبسة من آيات قرآنية ومن أسماء الله الحسنى، ولقد رأيت في أن أشارككم فيها لعلي أنفع بها من هو أحوج إليها، ومن يحب أن يجدد في أوراده لقضاء حوائجه وتذوق حلاوة القرب من الله سبحانه وتعالى. قمت بتقسيمها كالآتي، وأسأل الله ينفعني وإياكم بها. أولاً: أوراد الفتح وهي الأوراد الخاصة بالفتح لأي هدف تريده أي تستخدمه بشكل عام لأي هدف ، وكل ما عليك هو أن تستحضر هدفك وتردد الورد باستشعار تام، والله ولي التوفيق. - (إنا فتحنا لك فتحاً مبينا) - ( وأثابهم فتحاً قريبا) - ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) - ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه) - ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) - ( نصر من الله وفتح قريب) - ( وفتحت السماء فكانت أبوابا) - ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) - ( اللهم فتح مبين) - ( اللهم افتح لي أبواب خيرك ولطفك) ثانياً: أوراد لنيل البركة والتيسير من الله تعالى - (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) - ( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) - ( بديع السماوات والأرض و

مسرحية عريس الغفلة- مسرحية كوميدية- تأليف: زهرة علي

مسرحية عريس الغفلة- مسرحية كوميدية- تأليف: زهرة علي هذه المحاولة الأولى لي في كتابة مسرحية، فقد تجد بعض الأخطاء الدرامية، لذلك اخبرني بها فأنا اتقبل النقد البناء لتتطور محاولاتي القادمة في الكتابة. ربما تكون طريقتي في طرح الحوار جديدة فقد تعمدت الدمج ما بين اللغة العربية الفصحى والعامية لأكون لكم نكهة من نوع خاص.. ومتأكدة أنها ستعجبكم..  (ولأقيم عملي كمتابعة للمسرحية سأقوم بوضع ردة فعل الجمهور من ضحك أو الإعجاب بالتصفيق ما بين قوسين باللون الأحمر..) نبذة عن المسرحية: اسم المسرحية: عريس الغفلة نوع المسرحية: كوميدية تأليف: زهرة علي تم النشر في 12-9-2020 شخصيات المسرحية: الزوج: وليد "أبومشعل"، عمره 33 سنة ويعمل معلم لغة عربية، ويتحدث اللغة العربية الفصحى تأثراً بعمله.  ولديه ابنان: مشعل: 7 سنوات فهد: 8 سنوات الزوجة رقم 1: إيمان " أم مشعل وفهد"، في أواخر العشرينات من عمرها، من الجنسية الخليجية، انيقة وجميلة. أم الزوج: أم وليد - امرأة في الخمسينات من عمرها، ترتدي الملابس الشعبية. الزوجة رقم 2: سنية - فتاة من الجنسية

برنامج لختم القرآن الكريم

  برنامج لختم القرآن الكريم المقدمة:  لقد أتت الأيام الجميلة، أتت مواسم الرحمة لينفض المرء عنه ثوب الغفلة، وثوب النوم، وثوب البعد والجفاء عن الله تعالى، لتكون راحته ولذته ونعيمه وسروره وشوقه في الإقبال على الله تعالى. ذكر الله تعالى يشرح الصدر ويزيل الضيق ، فما بالك بختم القرآن الكريم في الشهر الفضيل، شهر رمضان المبارك، ولقد مرت في عمرك رمضانات كثر، فاجعل رمضانك هذا الأعظم أجراً، والأكثر سعياً وعملاً، والرواء على قلبك وروحك وعملك. أقدم لكم جدولأ لختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان المبارك