سلسلة قصص هلهولة – الحلقة الثانية – فراشة الأمل
تأليف: زهرة علي
أدمن الطبيب محمد سماع صوت المذيعة منال كل صباح عبر أحد البرامج الإذاعية
الصباحية، صحيح أنه لا يعرفه شخصياً لكنه يشعر بالحب والسلام عبر سماع كلماتها
الإيجابية المحفزة، التي تنعش يومه بالسعادة والأمل.
الطبيب محمد طبيب أسنان، يتناول قهوته الصباحية قبل استقبال المراجعين،
ويستمع للمذياع قبل بدأ ساعات دوامه.
صوت المذيعة: الفطرة هي التغيير، لا تحارب من أجل الثبات، انسجم مع التيار
واختر أن تتغير للأفضل...
تختار المذيعة منال كلماتها الإيجابية بدقة عالية، لأنها تريد أن تنشر الحب
والوعي والتفاؤل في حياة محبيها والمستمعين لبرنامجها الذي أحب الناس أسلوبها فيه
وأخلاقها، ومرونتها في الرد على مكالماتهم، لذلك اطلق عليها زملائها في العمل لقب
"فراشة الأمل"، وكانت سعيدة وفخورة بهذا اللقب.
منال فتاة شغوفة تعمل في إحدى قنوات الراديو كمذيعة محترفة تحب مجال عملها،
وتتلقى مشاركات المستمعين عبر اتصالاتهم بحب واحترام، وتنشر الطاقة الإيجابية بين
طيات كلماتها، كما إنها الفتاة الوحيدة لوالدتها، ترعاها وتحترمها وتقدرها، وفي
الآونة الأخيرة خصصت لوالدتها ممرضة خاصة لرعايتها في أثناء غيابها في فترة العمل.
تجلس منال على كرسيها في الإذاعة وتضع بين أذنيها السماعة التي تحمل
المايكروفون، ويلفت انتباهها المخرج الإذاعي لبدء الحلقة.
المخرج: 3 2
1 اكشن
يظهر صوت منال: صباح الخير مستمعينا الكرام، عزيزي المستمع لو شعرت أن
الظروف هي ذاتها، فأعلم أن الظروف ليست ذاتها، كل صباح جديد، وشمس كل صباح هي شمس
جديدة ليس بالمعنى المادي بل بالمعنى الجمالي، والإحساس بعظمة الخالق، ففي كل صباح
تتلقى من جديد بركات الله ونعمه...
ثم يقطع الكونترول كلامها بأغنية لفضل شاكر..
المخرج: يعطيج العافية أ. منال، ابدعتي اليوم في اختيار الكلمات، دائماً متألقة
، بارك الله فيج.
منال تبتسم بهدوء وتعمل بيدها علامة ok
يستمع لهذه القناة الإذاعية الكثير من الأشخاص، وقد تكون الجمل التي يستمع
إليها قصيرة ولكنها مؤثرة، ومن الأشخاص من يستمع للراديو وهو ذاهب في سيارته إلى
عمله، وهناك بعض النساء يستمتعن بذلك وهن يطبخن أو يتناولن قهوتهن..
منال: عدنا من جديد .. أعزائي المستمعين اليوم سيكون موضوعنا عن يوم الأم
وتقدير وحب الأم، نرحب بمداخلاتكم ورسائلكم إلى أمهاتكم عبر رقم 0000 ، ومعنا
اتصال.. آلو..
ماجد: ألو صباح الخير
منال: صباح النور، من معاي؟
ماجد: معاكم ماجد عبد المنعم..
منال: أهلاً صديقنا ماجد، تفضل تقدر تقول مداخلتك، شنو تحب تقول في يوم
الأم؟
ماجد: أحب أقول أن اللي عنده أم يحافظ عليها لأن الواحد ما يعرف قيمة الشيء
إلا إذا فقده، وأنا شخص فقدت أمي من فترة قصيرة.
منال: يؤسفني سماع ذلك يا أخ ماجد، إن شاء الله آخر الأحزان والله يصبركم،
وأحب أضيف إن اعظم هدية ممكن تقدمها لها هي الدعاء لها بالرحمة والمغفرة.. ومعانا
اتصال ثاني.. ألو من معانا؟
مريم: معاج مريم.. بختصر مكالمتي في دقيقتي.. أولا يعطيج العافية على هذا البرنامج الممتع، وثانياً أحب أقول إن الأم مدرسة إن أعددتها .. أعددت شعباً طيب الأعراق.. وسلامتكم
منال: يا حلوج والله.. شكراً يا مريم على مداخلتج اللطيفة، وفعلاً تربية الأم تلعب دور بارز في تعامل الأجيال القادمة ونجاحهم في مجتمعهم.. ومعانا مكالمة.. نقول ألو..
شهد: ألو .. صباح الخير، معاج شهد..
منال: أهلا شهد.. صباحج حب وتفاؤل، وكل عام وانتي بخير
شهد: حبيت أسألج، انتي شلون تحتفلي بيوم الأم، وأمج ما تعرفج، شلون تحتفلي
أنتي بالذات ، خصوصاً إني سمعت أن أمج ما تعرفج ومريضة بالنسيان.
الكونترول يقطع الاتصال لأنه مثير للجدل..
منال: اممممم، إذا كنتي تتقصدين تحرجيني يا أخت شهد فمقبولة منج لأنج ما تعرفيني عز المعرفة، فبالعكس هذا الشيء
يشرفني إنها أمي وما تركتها عشان مرضها، وأحب أخبرك إن أمي كانت تعرفني وربتني من
صغري أحسن تربية ودرستني في أحسن المدارس والجامعات، ومن العيب إني اتنكر لها بعد
ما صادها آلزهايمر، ومازلت احتفل معها واقدرها حتى لو ما عرفتني ، يكفيني شرف إني
اعرفها وأخدمها بعيوني ووجودها في حياتي هو البركة بذاتها ولا تنسي إن الرسول (ص) أوصانا بالأم... ونطلع فاصل..
المخرج يقوم باختيار اغنية "ست الحبايب يا حبيبة..."، ثم يقوم
بالتصفيق مع طاقم العمل لمرونة منال وذكائها في الرد..
"أحياناً يأتيك أشخاص يغارون من نجاحك وتقدمك في الحياة، لذلك يحاولون
أن يقذفوك بكلمات بذيئة أو يحبطونك بكلماتهم لمنع تقدمك، وبالخصوص أنهم مازالوا في
أماكنهم، لم يتقدموا ويحسدون من تقدم عليهم.. عليك أن تعرف أنه لا ترمى إلا الشجرة
المثمرة"
انتهى دوام منال ، وعادت إلى منزلها، قبلت رأس والدتها واحتضنتها ، ثم
البستها خاتماً من الذهب كانت قد اشترته مسبقاً لتقدمه إليها في يوم الأم ، وقالت منال:
انتي اغلى عندي من الذهب، كل عام وانتي بخير يا اغلى شيء عندي، كل عام وانتي جنتي..
ابتسمت أم منال وقالت: حلو هذا الخاتم، مشكورة يا بنيتي يا منال.. الله يهديج ويوفقج .. آنا يوعانة مافي
أكل..
احتضنت منال والدتها وهي تغص بالدموع، فنادراً ما تتذكر والدتها اسمها،
وكثيراً ما تنسى، وأحياناً تصاب ببعض النوبات التي تضطر فيها لطلب الإسعاف إليها،
وهذا ما جعلها تحضر ممرضة خاصة لوالدتها.
آلزهايمر مرض خطير جداً، ولو عرف أولئك الذين يطلقون المزاح وكلمات التصغير
من هذا المرض حقيقته لما تفوهو بذلك، فترى أحدهم عندما ينسى يضحك قائلاً لا بد أني
اصبت بالزهايمر، لو عرف أخطاره لما تفوه بتلك الكلمات حتى على سبيل المزح مع الآخرين.
آلزهايمر هو مرض تحللي عصبي مزمن عادة ما يبدأ بطيئاً ويزداد سوءاً
بالتدريج مع مرور الوقت، ومع تقدم المرض تظهر أعراض تتضمن مشكلات في اللغة
وتوهاناً يشمل الضياع بسهولة وتقلبات في المزاج، وضعفاً في الدافع، وعدم القدرة
على العناية بالنفس، وهذا ما يجعل من منال تعامل والدتها معاملة الطفلة الصغيرة.
صار موضوع محادثة منال وشهد ترنداً في الوطن العربي، والكثير من قام بالبحث
عن مرض آلزهايمر، وعن أعراضه، والبعض انتقد طريقة كلام شهد، واتهموها بالغيرة،
وزادت محبة الناس لمنال.
وفي اليوم التالي استئذنت منال من عملها للذهاب إلى طبيب الأسنان، واستلم
زميلها فهد مكانها، وفي الطريق أدارت منال مذياع سيارتها لتستمع إلى البرنامج
أثناء طريقها للعيادة.
كان هناك فاصل بأغنية الفنانة أحلام ....
فهد: أهلاً مستمعينا.. طبعاً اليوم أنا أخذت مكان زميلتي الرائعة منال..
اعرف أن مستمعينا ينتظرون صوت منال بس للأسف عندها ظروف.. وإن شاء الله في المرات
القادمة بتكون معانا .. عزيزي المستمع.. تريد أن تعيش بسعادة عليك أن تكون باللحظة
الحاضرة، لا تفكر بالماضي، فالذي مضى قد مضى، ولا تفكر بالمستقبل، فأنت لست
بصانعه، ومعانا اتصال، انقول ألو..
شهد: ألو.. معاكم شهد.. آنا اتصلت أمس بأستاذة منال.. الحين عرفت غلطتي..
الناس كلها تعيش ظروف خاصة، البعض يظهرها والبعض يخفيها بنجاحه وابتسامته، ولا يحق
لي اتدخل في حياة الآخرين وانشره.. آنا .. آنا اعتذر للأخت منال اللي ما في منها
ولا مثل أخلاقها..
فهد: شكراً يا أخت شهد على اعتذارج، وأكيد اختنا منال قلبها كبير وبتقبل
الاعتذار، والمهم أنج عرفتي وين خطأج وصححتيه بالإعتذار.. واعتقد يا مخرجنا نحتاج
نستمع لأغنية حلوة منك وعلى ذوقك..
ثم يقطع المخرج المكالمة بأغنية..
بينما منال تستمع للمحادثة عبر
مذياع سيارتها، ابتسمت وقالت: الحمدلله.
دخلت منال العيادة، انتظرت قليلا إلى أن جاء دورها..
طرقت الباب، دخلت وسلمت على الطبيب..
منال: السلام عليكم
رد الطبيب التحية، وسألها عن حالتها، ثم جلست على كرسي الكشف، وجه الطبيب
مصباحاً تجاه أسنانها.. كان الخوف يتملكها.. فدائماً ما نخاف من طبيب الأسنان،
ونخشى من النتيجة، ربما من كثرة الأطباء التجاريين، الذين خربوا سمعة المهنيين.
الطبيب: لا تخافين.. آنا ما سويت شي بس أكشف، أنا بأشر وقولي لي أي سن
يعورج... هذا .. هذا..
منال: لا.. لا .. إي إي هذا
ابتسم الطبيب وقال: مثل ما توقعت، هذا ضرس العقل ويحتاج نشيله، لا تخافين
ما بيألمج لأن هو ظاهر وبسرعة بينشال، وبعد مع البنج ما بتحسين بالألم..
أحس الطبيب بخوفها، وأخذ يسألها بعض الأسئلة العادية ليبعد عنها الخوف
والارتباك..
الطبيب: تشتغلي؟
منال وفمها مفتوح: إي..
الطبيب: شنو تشتغلين؟
منال: مذيعة
الطبيب وهو يضع إبرة البنج: صج، بس آنا ما شفتج في التلفزيون من قبل!
منال: اشتغل مذيعة في الإذاعة
الطبيب متفاجئ: أوه.. ليكون انتي منال المشهورة اللي صرتي ترند بسبب مرض
أمج..
منال: أي.. بالضبط
الطبيب وهو يخلع السن من مكانه: إصدار الأحكام على البشر مشكلة نعاني منها
كلنا، ويقولون إن هم صريحين وما يقصدون عشان يبررون وقاحتهم..
واصل الطبيب كلامه بأسئلة لطيفة، ومنال كل إجابتها "إي" لأنها لا
تستطيع الكلام من إبرة البنج، ثم إنه أخبرها أنه انتهى من خلع الضرس بدون ألم.
الطبيب: خلصنا.. وهذا ضرسج إذا تحبين تحتفظين فيه.
استغربت منال وقالت بتلعثم بسبب القطن في فمها: شلون! ما حسيت.. كنت أفكر أنك تسولف وبعدك ما بديت في
العلاج.
الطبيب: هذه شغلتي، إني ما أخلي المريض يحس بالألم.
منال: ما شاء الله يدك خفيفة، أنت صج دكتور شاطر
الطبيب: إذا حسيتي بالألم اشربي من لحبوب المكتوبة في الوصفة الطبية، ولا
تنسي المضمضة، وأكل الأشياء الباردة بعد أربع ساعات من الحين..
منال: الله يعطيك العافية.. شكراً ومع السلامة
الطبيب: العفو ومع السلامة
أعجب الطبيب محمد بأخلاق منال وحسن
تربيتها وصبرها، وقرر أن يتقدم مع أخته لخطبتها، وافقت منال على الزواج بشرط أن
تعيش والدتها معها في نفس المنزل، ووافق الطبيب محمد على شرطها معرباً عن إعجابه
بمدى حبها وبرها بوالدتها.
تم الزواج في أكبر وأجمل صالات الأعراس بين جمع من الحضور، وكان المسرح مزيناً
بالورود، وأطلت العروس في قمة تألقها وأناقتها على الحضور الذين انبهروا بجمالها،
وقبل أن تصعد إلى "كوشتها" قبلت رأس والدتها ويديها، واصطحبتها معها إلى
"الكوشة" وهي تضع يداً في مرفقها ويداً في مرفق العريس، ثم قبل العريس
رأس عروسته، وتعالت أصوات النساء فرحاً بالهلهولة..
" يسوق الله لك الأمور سوقاً رغماً عنها، اعمل بالأسباب، وتوكل عليه،
واحذر أن تربط نجاحك ومرادك بشيء، فقط اعمل بأخلاقك وتربيتك واتبع قلبك"
مرت الأيام.. صوت منال في المذياع، والطبيب محمد يستمع إليها وهو في
عيادته..
منال: " حاول أن تصنع حياة إنسان بشيء بسيط.. وربي لن يغفل عن نيتك
الطيبة.. وحتماً يسوق لك من الخير مالا تتوقعه"
كان يبتسم وهو يستمع إليها، فخور بها، فهو كان يبحث عن زوجة طموحة،
إيجابية، خلوقة، بارة بوالديها، وتحب الحياة، وشاءت الأقدار أن يتعرف عليها بنفسه
وتكون من نصيبه، رغم أنه كان يجهل الشخص الذي أدمن الاستماع إليه يومياً، فتفاجأ
بوجودها شخصياً في عيادته.. هذه هو القدر الإلهي يعمل بالنية الطيبة....
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقاتك الإيجابية تسعدنا